فصل: تفسير الآيات (1- 2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة النور:

.تفسير الآيات (1- 2):

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}
قلت: {سورة}: خبر، أي: هذه سورة، وأشير لها، مع عدم تقدم ذكره؛ لأنها في حكم الحاضر المشاهدَ. وقرئ بالنصب على الاشتغال، وجملة: {أنزلناها}، وما عطف عليه: صفة لسورة، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة. و{الزانية}: مبتدأ، والخبر {فاجلدوا}، ودخلت الفاء؛ لتضمن المبتدأ معنى الشرط؛ إذ اللام موصولة، أي: والتي زنت والذي زنى فاجلدوا، هذا مذهب المبرد وغيره، والاختيار عند سيبويه: الرفع على الابتداء، والخبر: محذوف، أي: فيما فرض عليكم، أو: مما يُتلى عليكم: حكم الزانية والزاني، وقدَّم الزانية؛ لأنها الأصل في الفعل، والداعية فيها أوفر، ولوال تمكينها منه لم يقع. وقيل: لمّا كان وجود الزنى في النساء أكثر، بخلاف السرقة، ففي الرجال أكثر، قَدَّم الحق تعالى الأكثر فيهما.
يقول الحق جل جلاله: هذه {سورةٌ}، وهي الجامعة لآيات، بفاتحة لها وخاتمة، مشتقة من سور البلد. من نعت تلك السورة: {أنزلناها} عليك، {وفرضْنَاها} أي: فرضنا الأحكام التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أي: جعلناها مقطوعاً بها قطعَ إيجاب.
وقرأ المكي وأبو عمرو: بالتشديد؛ للمبالغة في الإيجاب وتوكيده، أو: لأن فيها فرائض شتى، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.
{وأنزلنا فيها} أي: في تضاعيفها {آيات بينات} أي: دلائل واضحات؛ لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها؛ فإنها كسائر السور. وتكرير {أنزلنا}، مع أن جميع الآيات عين السورة؛ لاستقلالها بعنوان رائق دَاع إلى تخصيص إنزالها بالذكر؛ إبانة لخطرها، ورفعاً لقدرها، كقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، بعد قوله: {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ}. {لعلكم تذكَّرون} أي: لكي تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بالٍ منهم، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
ثم شرع في تفصيل أحكامها، فقال: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ}؛ إذا كانا حُرَّيْن، بالغين، غَيْر مُحْصَنَيْنِ، وألا تكون المرأة مكرَهة. وظاهر الآية: عموم المحصن وغيره، ثم نسخ بالسُنة المشهورة. وقد رجم- عليه الصلاة والسلام- مَاعزاً وغيره. وعن علي رضي الله عنه: جلدتهما بكتاب الله، ورجمتهما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل نسخ بآية منسوخة التلاوة، وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما أَلْبَتَّةَ؛ نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، ويأباه ما رُوي عن علي رضي الله عنه. اهـ. قاله أبو السعود.
وشرط الإحصان: العقل، والحرية، والإسلام، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، ودخول معتبر. وفي التعبير بالجلد، دون الضرب؛ إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصلَ أثرُ الضرب إلى اللحم، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجِلد الظاهر. والخطاب للأئمة؛ لأن إقامة الحدود من الدِّين، وهو على الكل، إلا أنه لا يمكن الاجتماع، فيقوم الإمام مقامهم، وزاد مالك والشافعي مع الجلد: تغريب عام، أخذاً بالحديث الصحيح.
وقال أبو حنيفة: إنه منسوخ بالآية.
{ولا تأخذكم بهما رأفةٌ} أي: رحمة ورقة. وفيها لغات: السكونُ، والفتح مع القصر والمد، كالنشأة والنشاءة، وقيل: الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب. {في دين الله} أي: طاعته وإقامة حدوده، والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله. {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، هو من باب التهييج، وإلهاب الغضب لله، ولدينه، فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء أحكامه. وذكر اليوم الآخر؛ لتذكير ما فيه العقاب في مقابلة المسامحة. وجواب الشرط: مضمر، أي: إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد.
قيل لأبي مجلز في هذه الآية: والله إنا لنرحمهم أن يُجلَدَ الرجل أو تُقطع يده، فقال: إنما ذلك في السلطان، ليس له أن يدعهم رحمة لهم. وجَلَدَ ابن عمر جارية، فقال للجلاد: ظهرَها ورجليها وأسفلها، وخفّف، فقيل له: أين قوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة}...؟ فقال: أأقتلها؟، إنَّ الله أمرني أن أضربها وأأدبها، ولم يأمرني أن أقتلها. اهـ. ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة.
{وليشهدْ عذابَهما} أي: وليحضر موضع حدِّهما {طائفةٌ من المؤمنين}؛ زيادة في التنكيل، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب. قال بعض العلماء: ينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم؛ لأنه قيام بقاعدة شرعية، وقُربة تعبدية، يجب المحافظة على فعلها، وقدرها، ومحلها، وحالها، بحيث لا يتعذر شيء من شروطها وحرمتها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن، فلا يقصر عن الحد، ولا يزاد عليه. ويطلب الاعتدال في السوط، فلا يكون ليناً جداً، ولا يابساً جداً، وكذلك في الضرب، فلا يرفع يده حتى يرى إبطه، ولا يخفف فيه جداً، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره.
وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة. والطائفة: فرقة، يمكن أن تكون حافة حول الشيء، من الطوْف، وهو الإدارة، وأقلها: ثلاثة، وقيل: أربعة إلى أربعين.
وعن الحسن: عشرة، والمراد: جمع يحصل به التشهير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التقوى أساس الطريق، وبها يقع السير إلى عين التحقيق. فمن لا تقوى له لا طريق له، ومن لا طريق له لا سير له، ومن لا سيرله لا وصول له. وأعظم ما يتَقي العبدُ شهوةَ الفروج، فهي أعظم الفتن وأقبح المحن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي أضَرّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ستَّ خصال: ثلاثاً في الدنيا، وثلاثاً في الآخرة: فأما اللاتي في الدنيا؛ فيُذهب البهاء، ويورثُ الفقرَ، وينْقُصُ العمرَ، وأما اللاتي في الآخرة؛ فيوجب السخطَة وسوءَ الحسابِ والخلودَ إلى النار» والمراد بنقص العمر: قلة بركته، وبالخلود: طول المكث. وفي حديث آخر: «إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني»، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة» وقال وهب بن منبه: (مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى).
وفي بعض الأخبار القدسية: يقول الله عز وجل: أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت مكة بيدي، أُغني الحاج ولو بعد حين، وأُفقر الزاني ولو بعد حين، هذا وباله في الدنيا والآخرة، وأما في عالم البرزخ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها، هكذا حتى تقوم الساعة، كما في حديث البخاري. وقال ابن رشد: ليس بعد الشرك أقبح من الزنا؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}: قال في الإحياء: في الحديث: «خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا» يعني: في الدين؛ قال تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة}، فالغيرة على الحُرَمِ، والغضب لله وعلى النفس، بكفها عن شهوتها وهواها، محمود، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ. اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (3):

{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
يقول الحق جل جلاله: من شأن {الزاني} الخبيث: أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله، أو في مشركة، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها، من الفسقة أو المشركين، وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد، جيء به؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن؛ إذ الزنا عديل الشرك في القبح، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن، وهو نظير قوله: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26].
روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات، يُكرين أنفسهن وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن؛ لحسنهن، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، فنفرهم الله تعالى عنه، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين، فلا تحوموا حوله؛ لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم.
قيل: كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ وا} [النور: 32]. وقيل: المراد بالنكاح: الوطء، أي: الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهو بعيد، أو باطل.
وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها. فقال: «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ، وآخره نكاح» و«الحرام لا يُحرم الحلال».
ومعنى الجملة الأولى: وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن الزناة، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا، بخلاف ما تقدم في الجلد؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، كما تقدم، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجل اصل فيه.
ثم ذكر الحُكْم فقال: {وحُرِّم ذلك على المؤمنين} أي: نكاح الزواني بقصد التكسب، أو: للجمال؛ لما في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فكيف بالمؤمنين والأفاضل؟، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم، مبالغة في الزجر، وقيل: النفي بمعنى النهي، وقرئ به. والتحريم: إما على حقيقته، ثم نسخ بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ وا} [النور: 32] إلخ، أو: مخصوص بسبب النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل، وفي ذلك يقول القائل:
عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ فَمَنْ غَدَا ** مُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا

وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ ** فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا

فالمرء على دين خليله، ومن تحقق بحالة لا يخلوا حاضروه منها، والحكم للغالب، فإن كان النورُ قوياً غلب الظلمةَ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور، وصيرته ظلمة، ولذلك نهى الله تعالى عن نكاح الزواني، فإنه وإن كان نور الزوج غالباً- إذا كان ذا نور- فإن العِرْقَ نَزَّاعٌ، فيسرى ذلك في الفروع، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة، ولا أولاد أهل العفة إلا أعِفَّاء،
{والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف: 58].
وفي الحديث: «إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ، قيل: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء» قال ابن السكيت: شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله، فتجيء أولادها لأصلها في الغالب. فيجيب على اللبيب- إن ساعفته الأقدار- أن يختار لزراعته الأرض الطيبة، وهي الأصل الطيب، لتكون الفروع طيبة. وفي الحديث: «تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ». اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
قلت: {ثمانين}: مفعول مطلق، و{جلَدة}: تمييز. {إلا الذين تابوا}: إما استثناء من ضمير {لهم}، فمحله: الجر، او: من قوله: {الفاسقون}، فمحله: النصب؛ لأنه بعد مُوجَبٍ تام.
يقول الحق جل جلاله، في بيان شأن العفائف، بعد بيان شأن الزواني: {والذين يرمُون} أي: يقذفون بالزنا {المحصناتِ}؛ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات، بأن يقول: يا زانية، أو: يا مُحبة، ولا فرق بين التصريح والتعريض، ولا بين النساء والرجال، قاذفاً أو مقذوفاً. والتعبير بالرمي، المنبئ عن صلابة الآلة، وإيلام المرمى، وبعده عن الرامي؛ إيذان بشدة تأثيره فيهن، وكونه رجماً بالغيب. والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا، لا غير.
{ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء} يشهدون عليهن بما رموهن به، وفي كلمة {ثم}؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود، كما أن في كلمة {لم}: تحقق الإتيان بهم. وشروط إحصان القذف: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والعفة عن الزنا، فإن توفرت الشروط {فاجلدوهم} أي: القاذفين {ثمانينَ جلدة}؛ لظهور كذبهم وافترائهم؛ لقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} [النور: 13]، وتخصيص رميهن بهذا الحكم، مع أن رمي المحصنين أيضاً كذلك؛ لخصوص الواقعة، وشيوع الرمي فيهن. والحدود كلها تشطر بالرق، فعلى العبد في الزنا خمسون، وفي القذف أربعون.
{ولا تقبلوا لهم} بعد ذلك {شهادةً أبداً}؛ زجراً لهم؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه، فعوقب بإهدار شهادته، جزاء وفاقاً. والمعنى: ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي، أبداً، مدة حياتهم، فالرد من تتمه الحدّ، كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم، أي: فاجمعوا لهم بين الجلد والبرد. {وأولئك هم الفاسقون}، كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الشر والفساد، أي: أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق، والخروج عن الطاعة، والتجاوز عن الحد، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم، دون غيرهم.
{إلا الذين تابوا من بعد ذلك} القذف، {وأَصلحوا} أحوالهم، فهو استثناء من الفاسقين، بدليل قوله: {فإن الله غفور رحيم} أي: يغفر ذنوبهم ويرحمهم، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين. فعلى هذا لا تُقبل شهادته مطلقاً فيما حدّ فيه وفي غيره؛ لأن رد شهادته وُصلت بالأبد، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي. وقيل: الاستثناء راجع لقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة}، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقاً؛ لأنه زال عنه اسم الفسق، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقاً، فينتهي بالتوبة، وبه قال الشافعي وأصحابه، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار.
وفصل مالك، فقال: لا تجوز فيما حدّ فيه، ولو تاب، وتجوز فيما سواه، وكأنه جمع بين القولين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب، وهو من شيم ذوي الألباب، وبه السلامة من الهلاك والعطَب، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب، وأقبح العيوب، ولله در القائل:
إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم ** وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ

لِسَانَكَ لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرئٍ ** فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ

وإنْ أبصرت عَيْنَاكَ عيباً فقل لها ** أيا عَيْنُ لا تنظري فللناس أعيُنُ

وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى ** وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ

فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه، ولا يرى في المملكة سواه، يذكر الله على الأشياء، فتنقلب نوراً؛ لحسن ظنه بالله، ويلتمس المعاذر لعباد الله؛ لكمال حسن ظنه بهم. وبالله التوفيق.